نصر غزة- المقاومة، الصمود، وهزيمة سردية الاحتلال

مع قرب انتهاء المرحلة الأولية من اتفاقية وقف إطلاق النار في غزة، وما تتضمنه من تبادل للأسرى، تتعالى بعض الأصوات التي تحاول التقليل من فوز المقاومة الفلسطينية، بل وتدين حركة حماس، معتبرةً إياها مجرد فصيل من فصائل الإسلام السياسي، لا يهمها سوى السلطة، حتى وإن كان ذلك على حساب الأرواح والجرحى والأيتام. هذا الطرح يمثل ترويجًا أيديولوجيًا بغيضًا للرواية الصهيونية، خاصةً وأن هذه الأصوات لم تنشأ في بيئة النضال السياسي الذي شهد تراجعًا ملحوظًا منذ نكسة عام 1967، وما تلاها من انتكاسات في المنطقة العربية.
لقد نجحت الرواية الغربية، عبر أدواتها الإعلامية المتنوعة، في تصوير الداعمين للمقاومة كمحور للشر والخراب، بينما قدمت التطبيع مع الكيان الإسرائيلي كطريق نحو الاستقرار والازدهار. هذا الأمر أدى إلى استسلام هذه الأصوات للخنوع والاستسلام، خاصةً بعد تضاؤل دور المثقف العضوي وبروز التفاهة والانحطاط في المجتمعات العربية والغربية على حد سواء. فالمثقف بات مجرد خبير ضمن آلة الرأسمالية الاحتكارية والنيوليبرالية، التي حولت قيم الكرامة والعزة والحرية إلى مجرد مفاهيم براقة للنجاح والقوة.
نتيجة لذلك، تسربت إلى النخب قيم بديلة انتهازية مثل الوصولية، والانفراد بالفرص، والأنانية المفرطة، والتركيز على الأداء الشكلي والفعالية الظاهرية. هذه النخب تحولت بدورها من أداء وظيفتها النقدية إلى التسويق الأعمى للنموذج الغربي في الثقافة والسياسة والاقتصاد، دون أي تمحيص أو تدقيق.
وخير دليل على الروح الانهزامية التي تجعل من انتصار المقاومة هزيمة، هو التكرار المستمر لـ "أسطوانة الإسلام السياسي والسعي للسلطة على حساب الأبرياء العزل"، عند الحديث عن انتصار حماس. إن اعتماد المقاومة على العقيدة الدينية هو جزء لا يتجزأ من الهوية الفكرية والثقافية لأرض فلسطين.
فكل مقاومة في العالم تستند بالضرورة إلى مرجعية عقائدية أو فكرية، وإلا جاز لنا أن نتهم، بناءً على منطق هذه النخب الموالية للرواية الغربية، المقاومة في المغرب والجزائر وتونس وليبيا وسوريا والعراق، وعموم الدول العربية والإسلامية ضد الاستعمار، بأنها مجرد حركات إسلام سياسي.
ولو سلمنا بهذه الرواية المشوهة، لظلت بلداننا ترزح تحت نير الاستعمار. ولو صدقنا هذه الأكاذيب، لاعتبرنا لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية مجرد مسيحية سياسية، وبالتالي لما تحررت هذه البلدان أبدًا.
إن مساعي الرواية الغربية، المتحالفة مع الصهيونية، لإعادة صياغة العقول في العالمين العربي والإسلامي والعالم الثالث بشكل عام، تتم عبر إعادة تشكيل المناهج الدراسية والبرامج السياسية، مصحوبة بحملة إعلامية ضخمة ومستمرة، تهدف إلى فصل الشعوب عن تاريخها الحقيقي، وتبييض صفحة الاستعمار والإمبريالية السوداء. هذا أدى إلى نسيان الأجيال المتعاقبة لمعنى المقاومة، وثمنها الباهظ، وتضحيات الأجداد من أجل الحرية.
وهكذا، لم يعد لذكر المقاومة وجيوش التحرير في القرنين التاسع عشر والعشرين أي وجود يذكر في المقررات الدراسية أو البرامج الإعلامية. لذلك، فمن الطبيعي أن يتحول انتصار غزة على تحالف دولي مدعوم من إسرائيل ودول غربية تسلح الكيان المحتل بالمال والعتاد والرجال، إلى هزيمة في نظر هؤلاء المنهزمين. ولكن الحقيقة على أرض الواقع مختلفة تمامًا، وذلك للأسباب الجوهرية التالية:
أولًا: حرب إبادة جماعية وليست مجرد مواجهة عسكرية متكافئة
إن ما قامت به إسرائيل في غزة لم يكن مجرد حرب، بل كانت عملية إبادة ممنهجة، فالأمر لا يتعلق بمواجهة بين جيشين نظاميين، بل بين جيش حديث ومتطور، مدعوم من الغرب، وحركة مقاومة. لذلك، فالتعبير الأدق هو "حرب إبادة". وعليه، فإن أي اتفاق لوقف الحرب يعتبر انتصارًا للمقاومة الفلسطينية.
إذا نظرنا إلى الأهداف التي وضعتها إسرائيل لحربها هذه، بعد عملية طوفان الأقصى البطولية، والتي تمثلت في القضاء على حماس وتجريدها من السلاح، وإطلاق سراح الرهائن بالقوة العسكرية والاستخباراتية، واحتلال شمال غزة، وضم محور صلاح الدين جنوبًا ومحور نتساريم غربًا بهدف تهجير الغزيين إلى سيناء، وفقًا للإستراتيجية الاستيطانية الإحلالية للكيان الصهيوني، نجد أن النتائج جاءت عكسية تمامًا، فقد عادت حماس أكثر قوة وصلابة.
وهذا ما اعترف به وزير الخارجية الأميركي الأسبق أنتوني بلينكن في إحدى الندوات الصحفية، عندما أقر بأن "حماس جندت عددًا من المقاتلين يضاهي وربما يتجاوز عدد الذين فقدتهم، وأن هزيمة المقاومة الفلسطينية أمر مستحيل".
بدلًا من القضاء على حماس، اضطرت إسرائيل لتوقيع اتفاقية لوقف الحرب معها، بعد أن ألحقت خسائر فادحة بالجيش الإسرائيلي، حيث تجاوز عدد القتلى ستة آلاف، بينما وصل عدد الجرحى إلى أكثر من 16 ألف، منهم 8600 يعانون من إصابات جسدية بالغة، و7500 يعانون من اضطرابات وأمراض نفسية حادة، بالإضافة إلى العاهات الجسدية الدائمة. هذا الأمر أثر سلبًا على معنويات الجيش الإسرائيلي، خاصةً بعد انتشار التذمر واليأس في صفوفه، وتقديم أكثر من 200 ضابط عسكري بيانًا يرفضون فيه الاستمرار في الحرب لعدم قدرتهم على تحمل المزيد. هذا بالإضافة إلى ارتفاع معدلات الانتحار، والتهرب من الخدمة العسكرية، ورفض الانضمام إلى جيش الاحتلال من الأساس.
كما شاهدنا كيف أن السجون الإسرائيلية، بموجب صفقة تبادل الأسرى، تم إخلاء جزء كبير منها من المعتقلين الفلسطينيين من مختلف الانتماءات السياسية، مما يؤكد أن حركة حماس هي حركة مقاومة وطنية تتجاوز الانتماءات الحزبية والمذهبية وتعمل من أجل فلسطين، عكس ما تروج له الرواية الصهيونية. وها هي إسرائيل، بموجب بنود الاتفاق، قد انسحبت من شمال غزة وجنوبها وغربها مقابل عودة الغزيين إلى مدنهم وبلداتهم وقراهم.
وعلى الرغم من مماطلة الكيان الصهيوني ونكوصه عن اتفاقية تسليم الأسرى بضغط وتهديد أميركي غير مسبوق بتحويل غزة إلى جحيم، وتلويح ترامب بتهجير الغزيين، إلا أن حماس صمدت وثبتت على مواقفها المبدئية، مما أجبر الكيان الصهيوني على الرضوخ وإتمام الصفقة في مرحلتها الأولى.
كما أن الدعم الدولي الذي حظيت به المقاومة عقب الكشف عن مشروع ترامب/ نتنياهو بشأن التهجير، لقي رفضًا وإدانة واسعة من العديد من العواصم العربية والإسلامية والدولية، وهو ما يعتبر انتصارًا سياسيًا ودبلوماسيًا لفلسطين وللمقاومة.
ثانيًا: الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي الذريع أمام مقاومة خبيرة وذكية
إن فشل إسرائيل، التي تمتلك أجهزة استخباراتية تعتبر من بين الأقوى في الشرق الأوسط، وعلى رأسها "الموساد" و"الشاباك"، والمدعومة بأعتى الأجهزة الاستخباراتية في العالم، والمجهزة بأحدث التقنيات من أقمار صناعية وبرامج تجسس واستطلاع متطورة، في كشف سر الأنفاق وتحرير الرهائن، لدليل قاطع على ذكاء وخبرة المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس وكتائب القسام وباقي الفصائل.
هذه الحقيقة الإستراتيجية يجب ألا تغيب عن أذهان المحللين والخبراء المستسلمين للفكر الانهزامي وللرواية الغربية. فتضافر جهود كل هذه الأجهزة الإسرائيلية والأميركية وأجهزة الناتو في التعاون وتبادل المعلومات حول أنفاق غزة، التي لا تتجاوز مساحتها الكلية 360 كيلومترًا مربعًا، قد باء بالفشل الذريع في تفكيك المقاومة والانتصار عليها وتحرير الرهائن.
ثالثًا: الصمود الأسطوري لسكان غزة رغم الدمار الهائل والعذاب المتواصل
على الرغم من حجم الدمار الهائل الذي لحق بغزة، بسبب آلاف الأطنان من القنابل والصواريخ، بما فيها الفوسفورية المحرمة دوليًا، على مدار أكثر من خمسة عشر شهرًا، وارتفاع عدد الشهداء إلى أكثر من خمسين ألفًا، ومئات الآلاف من المصابين والمفقودين منذ طوفان الأقصى، غالبيتهم من الأطفال والنساء وكبار السن، وتشريد أكثر من مليون غزّي، لم تستسلم المقاومة، ولم ينتفض المدنيون ضد حماس وكتائب القسام، ولم تنتشر سلوكيات الخيانة وبيع الذمم للإيقاع بالمقاومة، بل ظلّ الغزيون صامدين مقاومين يدعمون مقاتليهم بشكل أسطوري، حتى في ذروة البرد القارس والجوع الشديد والسكن في الخيام، بعد أن دمر الكيان الصهيوني أكثر من 70% من المساكن والبنية التحتية، ولم ترتفع راية بيضاء واحدة.
رابعًا: المقاومة قيمة إنسانية وتاريخية راسخة ضد الظلم والاستعمار
كانت المقاومة على مر العصور، وخاصة في تاريخ الإمبريالية الغربية، بمثابة دفاع عن الشرف والكرامة والحرية، وعن قيم الخير في مواجهة الشر.
لقد كانت منذ بدايتها بمثابة دفاع عن الأقلية الضعيفة ضد الأكثرية القوية، ودفاع عن العدل في وجه الظلم، وعن الحرية ضد الاستعباد. لقد كانت منذ انطلاقها في القرن التاسع عشر رفضًا قاطعًا للاستعمار والعبودية، وضد قيم الغرب الإمبريالي البغيضة.
لذلك، لم تكن غزة تدافع عن نفسها فحسب، بل كانت تدافع عن العالم الحر بأكمله، وعن قيم الإنسانية والتحرر. لهذا السبب، ليس من المستغرب اصطفاف الغرب بزعامة أمريكا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وعموم دول الناتو لدعم إسرائيل ضد شعب أعزل. وبالتالي، فمن الطبيعي أن تكون موازين القوى مختلة في حرب الإبادة هذه، بين تحالف قوى الشر وشعب محاصر في بقعة أرضية صغيرة جدًا، وتعتبر من بين المناطق الأكثر كثافة سكانية في العالم.
إن العودة إلى صفحات التاريخ تؤكد لنا أنه بالرغم من كل ما حدث في غزة من دمار وخراب، فقد انتصرت حماس على الكيان الصهيوني وحلفائه الغربيين. فبين عامي 1899 و1901، سقط أكثر من مئة ألف قتيل، غالبيتهم من المدنيين، في الصين عقب ثورة "الملاكمين"، وهي انتفاضة شعبية صينية ضد تزايد النفوذ الغربي والياباني، الذي كان يمثل تحالف القوى الإمبريالية في بداية القرن العشرين. وفي نهاية المطاف، تحررت الصين وأصبحت قوة اقتصادية وتكنولوجية عظمى.
وفي الفترة ما بين 1954 و1962، أي خلال سبع سنوات فقط، خلفت الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي في شمال البلاد وحده أكثر من مليون شهيد، وفي النهاية انتصرت المقاومة الجزائرية وطردت المستعمر الفرنسي من أرضها.
وفي الحرب الفيتنامية، قُدر عدد القتلى بأربعة ملايين، معظمهم من المدنيين، وفي نهاية المطاف انتصرت المقاومة الفيتنامية وتحررت البلاد من الاحتلال الأمريكي والفرنسي.
وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على المقاومة في سوريا والعراق ولبنان والمغرب وتونس وفي عموم بلدان أفريقيا ضد الاستعمار الغربي والرأسمالية الاحتكارية والإمبريالية. فالمعاناة التي عاشتها شعوب هذه البلدان من قتل وتجويع وتعذيب وإبادة تتكرر اليوم في غزة.
لذلك، فإن الخسائر التي ألحقتها المقاومة الفلسطينية بالكيان الصهيوني على المستويات العسكرية والاقتصادية والسياسية والمعنوية تعتبر انتصارًا عظيمًا.
خامسًا: انقلاب الرأي العام العالمي وهزيمة إسرائيل سياسيًا وأخلاقيًا
إن السرعة التي كانت تسير بها "صفقة القرن" وإعادة تفكيك وتركيب وتشكيل الشرق الأوسط "الجديد" من خلال تقسيم الدول وإضعافها، والتطبيع مع الأنظمة العربية، مقابل تعزيز النفوذ الإسرائيلي في المجتمع الدولي، قد انقلبت رأسًا على عقب بعد عملية طوفان الأقصى، وما تبعها من حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني. فقد تحول الرأي العام الغربي في أوساط واسعة من الصحفيين والكتاب والطلاب والجماهير العادية، بسبب صور الدمار والقتل والإبادة الممنهجة التي ارتكبها الكيان الصهيوني.
لذلك، فالتحول الجوهري في الرأي العام العالمي يصب في صالح انتصار المقاومة، وتتجلى الهزيمة السياسية لإسرائيل في تفكك معاقلها في الغرب. فنتيجة لجهود أيرلندا وإسبانيا والنرويج والاعتراف بالدولة الفلسطينية، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 مايو 2024 قرارًا باعتبار فلسطين دولة كاملة العضوية.
وعلى الرغم من أن هذا القرار والاجتماع غير ملزمين، إلا أنهما أحدثا شرخًا عميقًا في وحدة الاتحاد الأوروبي والغرب بشكل عام في دعمهما اللامشروط لإسرائيل. بالإضافة إلى قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو وغالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب في 21 نوفمبر 2024، وإعلان عدد من الدول موافقتها على هذه المذكرة واستعدادها لاعتقالهما وتسليمهما للمحكمة.
وعلى الرغم من الدعم اللامشروط من الولايات المتحدة لإسرائيل، يشهد الشعب الأمريكي لأول مرة منذ حرب فيتنام تحولًا جذريًا في الوعي، خاصة بين الصحفيين والناشطين والطلاب. فكل ندوة صحفية للرئيس بايدن أو وزير خارجيته بلينكن تقريبًا يتم مقاطعتها بأصوات المحتجين المنددين بحرب الإبادة ومشاركة أمريكا فيها بالمال والسلاح من دافعي الضرائب الأمريكيين، هذا بالإضافة إلى أصوات التنديد التي ارتفعت في البرلمانات الأوروبية، وخاصة في إسبانيا وأيرلندا والنرويج وهولندا وإيطاليا وفرنسا ضد الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة.
الأمر نفسه ينطبق على تآكل صورة إسرائيل في الخارج، ومقاطعة المهرجانات والمحافل الفنية والرياضية والمؤتمرات احتجاجًا على جرائمها، بالإضافة إلى المسيرات المليونية في العديد من العواصم العالمية، كان آخرها ليلة الاحتفال برأس السنة 2024 في بريطانيا وأمريكا وهولندا وإيرلندا.
كل ذلك قلب الموازين وأطاح بمشروع "أبراهام" للتطبيع، الذي قاده دونالد ترامب خلال فترة رئاسته، بعد أن ارتفعت أصوات الشعوب منددة بما ارتكبته إسرائيل من قتل وإبادة في غزة، بعد أن كانت الجماهير الشعبية بدأت تستسلم لشعارات الاستقرار والرخاء والسلام مع إسرائيل، وتأثرت بأصوات الصهيونية الوظيفية في الأوساط العربية.
وهنا تكون إسرائيل قد خسرت سياسيًا وإستراتيجيًا ومعنويًا، بالنظر إلى حجم وتكاليف صناعة صورة إيجابية لها في الخارج عامة، وفي صفوف النخب في البلدان العربية والإسلامية خاصة، وهي صناعة كلفت مليارات الدولارات في العقدين الأخيرين، هذا بالإضافة إلى خسارة المكاسب الاقتصادية التي كانت ستجنيها من اتفاقية "أبراهام"، والتي كانت ستشمل باقي دول الخليج والشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
سادسًا: الخسائر الاقتصادية الفادحة التي تكبدتها إسرائيل
على الرغم من الدعم الهائل الذي تلقته إسرائيل من الولايات المتحدة وبعض دول الاتحاد الأوروبي، فإن حجم الخسائر التي تكبدها الاقتصاد الإسرائيلي منذ عملية طوفان الأقصى، حسب تصريحات الحكومة الإسرائيلية بعد توقيع اتفاقية وقف الحرب، يؤكد أن المنتصر الأكبر هو المقاومة في فلسطين. فقد خسرت إسرائيل 67 مليار دولار، منها 34 مليار دولار خسائر عسكرية مباشرة، و40 مليار دولار عجز في الميزانية العامة، وهو الأكبر في تاريخ إسرائيل، وأُغلقت 60 ألف شركة أبوابها خلال عام 2024، وتجاوزت الخسائر في قطاع السياحة 5 مليارات دولار، و4 مليارات في قطاع البناء، وأصبح ثلث سكان إسرائيل يعيشون تحت خط الفقر، ويعاني ربع السكان من انعدام الأمن الغذائي.
سابعًا: الهجرة العكسية وتراجع الثقة بمستقبل إسرائيل
إن الانهيار الأكبر الذي شهدته إسرائيل يتمثل في موجات الهجرة الجماعية منها منذ عملية طوفان الأقصى، والتي تقدرها الحكومة الإسرائيلية بنحو نصف مليون إسرائيلي تركوا "الأرض الموعودة"، وعادوا إلى بلدانهم الأصلية في أوروبا وأمريكا. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن ثلث الإسرائيليين يرغبون في الهجرة من إسرائيل، وأن نصف الجيل الحالي لديهم خطط لمغادرة دولة الاحتلال.
ولعل المقال التحليلي الذي كتبه "خوان كول"، المؤرخ الأمريكي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط ورئيس تحرير موقع "إنفورميد كومنت"، يقدم مثالًا جيدًا على انخفاض ثقة الإسرائيليين واليهود بشكل عام بإسرائيل، حكومة وجيشًا، بالرغم من زيادة المنح والمساعدات المالية التي تقدمها الحكومة للراغبين في العودة والاستقرار في إسرائيل.
وتشير التقديرات والدراسات الحالية إلى أن الارتفاع في موجات الهجرة العكسية من إسرائيل إلى أوروبا وأمريكا سيشهد زيادة كبيرة في السنوات القادمة.
ثامنًا: الانتصار الأخلاقي للمقاومة وتفوقها في حرب الصورة
لا يمكن إنكار أهمية الصورة في الحروب والصراعات المعاصرة، وإذا كانت المقاومة قد انتصرت على المستوى الميداني، فإن انتصارها في حرب الصور والرموز يعد أحد أهم الأسلحة التي استخدمتها لكسب الرأي العام العالمي، وتعميق مستويات الهزيمة الإسرائيلية، وهو ما اعترف به قادة الكيان الصهيوني.
إن الإخراج الاحترافي لعمليات التسليم، وفق ترتيبات منظمة وجمالية، جعل صورة حماس تتربع على عرش النقاش العالمي، كرمز للقوة والإرادة والذكاء. هذه الخصائص تعكس انتصارًا أخلاقيًا كبيرًا، في مقابل الانحدار الأخلاقي للكيان الصهيوني.
سواء تعلق الأمر بالمعاملة الحسنة للأسرى، أو منحهم الهدايا والذكريات، أو الاحتفال بتوديعهم وتسليمهم للصليب الأحمر، في مقابل الوضع المزري للأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، فإن النتيجة النهائية هي الانتصار الأخلاقي لقوى الخير في مواجهة قوى الشر والضغينة التي يمثلها جيش الاحتلال الإسرائيلي وداعموه الغربيون.
إن التفكك القادم لإسرائيل سيكون من الداخل، خاصة مع تزايد رفض المد اليميني المتطرف وتراجع مستويات الديمقراطية وهيمنة المؤسسة العسكرية والاستخباراتية على السلطة والحكم داخل إسرائيل، وهو ما ساهم فيه بشكل كبير طوفان الأقصى والأحداث التي تلته، في ظل اتساع نطاق الدعم الدولي والشعبي للقضية الفلسطينية، حتى في صفوف اليهود في أوروبا وأمريكا.